أخيرا" وبعد مسافة ساعتين في الطريق وصلت هذه الدائرة الحكومية . كان عليّ أن أستفيق باكرا" لأحضّر نفسي كي أصل مع الموظفين كي أتمم معاملتي , فأنا أعلم جيدا" مدى مماطلتهم في أعمالهم .
ترجلت من السيارة مسرعة نحو الطابق المحدد وإذ بي أسمع شجارا" عنيفا" لكني لم أكترث للأمر فأنا في عجلة من أمري لأضع معاملتي قبل مجيء الكثيرين .
لقد كان المكان خاليا" من الساعين إليه سوى ذاك الرجل الذي يصرخ ولا أفهم منه شيئا , وضعت معاملتي على الشباك وانتظرت قليلا" حتى استلمت ورقة صغيرة كُتب عليها رقم واحد وثمانون _ الساعة الواحدة وأربعون دقيقة ,,, ما إن قرأتها حتى أُصبت بالذهول فسألت الموظف ماذا يعني ذلك ؟ فأجابني بفظاظة : ألا تعرفي القراءة أم أنك لا تفهمي ,,, إنتظري حتى الوقت المكتوب لتأخذي معاملتك ... لكن ليس هناك أحد قبلي غير ذاك الرجل الذي يصرخ ويشتم فلم كل هذا الإنتظار إذا" ؟ فصرخ في وجهي وهو يردد إن لم يعجبك الإنتظار خُذي معاملتك وارحلي , لدينا أعمال ولا طاقة لنا لتحمّل هكذا أصناف من البشر .
قررت الإنتظار فأنا بحاجة لهذه الأوراق وقد تعبت من مشاق الطريق .
جلست في مقاعد الإنتظار وأنا أدقق بالرقم واحد وثمانون وفجأة هدأ المكان من ذاك الشجار العنيف وإذ بالرجل يأتي ليجلس بجواري ومازال وجهه مكتظا" بالغيظ وراح يسألني عن مدة انتظاري وحين رأى ورقتي ضحك منها كثيرا" وقال أنا قبلك بعشر دقائق .
أمسك بيدي وهو يقول هيا بنا نقتل هذا الوقت في مكان بعيد عن تلك الوجوه القامتة .
في الشارع المقابل , إرتقينا أن نجلس في الكافيه نتناول فطورنا , أُفضِّل الكرواسون بالجبن مع كوب من الشاي هكذا قلت له , وربما كان هو يفضّل الكرواسون أيضا" أو أنه أراد أن يتناول فطوره مثلي , ودونما كلام تناولنا فطورنا وكأننا في حالة جوع جائر , ثم وجهت بنظري إليه وإذ بعينيه تشع ابتسامة مشرقة وكأني أراه للتو , إنه لا يشبه ذاك الرجل الذي كان يشتم ويصرخ منذ برهة .
نظرت الى الساعة إنها التاسعة صباحا" مازال أمامنا إنتظارا" طويلا , أشعل سيجارته وراح دخانها يتطاير حول وجهي وكأنه يريد أن يسألني أشياءا" كثيرة ولا يريد , بقينا في حالة صمت هو ينفخ سيجارته وأنا أتابع دخانها .
حان وقت القهوة , تناولت فنجاني وبدأت ارتشافه ومازلت أنظر الى سيجارته , الى دخانها المتطاير وأتعمد الصمت فأنا أخاف كثيرا" من تلك اللقاءات العابرة , من تلك الصدف التي تأتي دون سابق إنذار لتطبع في نفوسنا جذورها وتمضي دون أن يكون لنا حق النقض عليها , لكن هذا الصمت يربكني أكثر فبادرته بالقول , مارأيك أن تقرأ فنجاني وأنا أقرأ فنجانك . أخذ مني الفنجان وبدأ يتفحص خطوطه وعلامات مشوشة ترتسم على وجهه ثم قال , إني أرى امرأة تحمل في يدها أوراق وتدخل دائرة حكومية لكن ... يا للهول ,,, لديها عقبات حوالي الست ساعات انتظار ,,, وعلت ضحكاتنا سويا" وقلت له يا لك من رجل عليم في قراءة الفنجان ...
جاء دوري لأقرأ فنجانه , لكن ماذا سأقول له وقد سرق مني الأفكار , عليّ أن أرتب كلاما" آخر , وأمسكت فنجانه وبدأت أسترسل بالكلام ,, تستفيق وأنت كاره لنهارك وتصادفك متاعب شتى ثم يحدث أمرا" يُنسيك كل شيء فينقلب يومك إلى نزهة جميلة وربما تتناول الكرواسون مع الشاي صباحا" وربما تشرب قهوتك في كافيه بعيدة , , , وإذ بي أنظر الى الساعة فأجدها الواحدة وعشر دقائق , ,, فأكمل قولي , وربما يمضي الوقت سريعا ,,,,,,
هيا بنا حان وقت أخذ المعاملة . توجهنا الى مقر الدائرة , ها قد انتهت معاملته ومع ابتسامة أخيرة طبعها على وجهه ولوّح بيده للفراق .....
عدت الى منزلي وأنا اردد كانت نزهة جميلة بدأت وانتهت دون أن أعرف من رافقني رحلتي ودون موعد للقاء آخر ....
هكذا تكون المعاملات في وطني , تهديك انتظارا" طويلا" فتهبك رحلة من العمر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق